بالرغم من تخصصي في التحليل النفسي و عاشق له إلا أن علاقة سيجموند فرويد العالم الأشهر في مجال التحليل النفسي مع الأساطير اليونانية القديمة و قصصها غير مفهومة بالنسبة لي .
فمن منهم كانت له الأسبقية العلمية على الآخر ؟ فمثلاً هل استخدم فرويد هذه القصص لشرح مدرسته العلاجية . فكانت المدرسة النفسية سابقة في الوجود العلمي على الأساطير اليونانية.
أم الأساطير اليونانية كانت تحمل معنى علمي تحليلي لطبيعة النفس الإنسانية و تفاعلاتها المختلفة ثم أتى فرويد و استنبط و نظم هذه المعاني و طبقها في مدرسته العلاجية .
و ربما يكون أوضح مثال على المفهوم الثاني هو مفهوم النرجسية . فمفهوم النرجسية متأصل في الطب النفسي التحليلي بشكل واضح و جلي . و نستطيع أن نتتبع خطواته الأولى في قصة نارسيس “نرجس ( ترجمتي الحرفية ) أو ناركيسوس “. فهذه القصة المفعمة ببعض المعاني لاحظها فرويد وطورها , و أضاف عليها و صاغ صورتها اﻹكلينيكية و طبقها أولاً ثم تلاميذه في تحليلهم للنفس الإنسانية
هل تحضركم أمثلة أخرى على أسبقية الأساطير اليونانية في التحليل النفسي عن مدرسة فرويد ؟
ماذا عن بقية الأساطير التي لم تدخل بعد إلى مدرسة التحليل النفسي هل نحتاج لاستكشافها من جديد و استخراج معاني جديدة نفسية منها
و ماذا عن المفهوم الأول و هو أن فرويد و مدرسته العلمية سابقين في الوجود عن الأساطير اليونانية و ما الأساطير سوى محاولة للشرح فقط ؟
في هذا المضمار لا نستطيع الهرب من عبقرية و تعقيدات قصة مثل قصة أوديب و عقدته.
و لن نتطرق لمفهومها الجنسي حالياً و لكن سنركز على مفهوم ” قتل الأب” .
كتابات كثيرة ناقشت علاقة فرويد بفيسلوف سابق له و هو ” نيتشة ”
Friedrich Wilhelm Nietzsche
فنيتشة أيضاً قتل الإله . و مفهوم طبعاً إنه لم يقصد فكرة أن الإله يموت و لكن كان قصده أن المنظومة الدينية والخلقية المبنية على فكرة الإله تم هدمها و تحطيمها في عصره الحالي وعصرنا الحالي .
كثير من المنظرين يناقشون الخلفية الأسرية التي نشأ فيها نيتشة و علاقتها بفلسفته. و مما هو جدير بالذكر أن والد نيتشة كان قسيساً لوثرياً توفى بسبب مرض في المخ وبالرغم من وفاة الوالد إلا إنه تلقى نشأة مسيحية صارمة .
و هنا لابد أن نذكر أن الذي قدم مفهوم ” الإله الأب ” كانت هي المسيحية . لدرجة أن الوصية تمنع أن يطلق لفظ ” الأب ” إلا للآب السماوي . ( متى 23 : 9 )
و كأن علاقة الطفل المسيحي بالإله و الإيمان به تتشكل وجدانياً بعلاقته بأبيه الأرضي . فكيف يتسنى للطفل أن يميز بين هذين الأبين ؟ فما يطلق على الواحد يطلق على الآخر . و ما يقدمه الأب الأرضي هو صورة مبسطة لما المفروض أن يقدمه الآب السماوي . و الأهم هو أن ما يحتاجه الطفل من أبيه الأرضي ما يزال البالغ عمرياً يحتاجه من أبيه السماوي .( أفسس3 : 14 – 15 )
ربما تكون ملاحظتي السابقة لا علاقة لها بنيتشة وموت أبيه و قتل الإله و قد تكون تزيد مني ولكني لا أستطيع أن أنفيها من خلال التحليل النفسي و لا أستطيع أن أنكر دور الأب في تشكيل وعي ووجدان الطفل بالإله و بالعالم .
و بتوهم الإنسان النضج و البلوغ وبالتالي فهو لم يعد في حاجة لأبيه و من هنا جاءت فكرة قتل الإله عند نيتشة أو قتل الأب عند فرويد فلا فارق.
ربما نكون قد شردنا عن موضوع المقالة . و موضوعها هو طبيب نفسي مصري. فما هو المغزى من هذه المقالة ؟
أولاً: طرحنا نقطتين فيما يخص علاقة فرويد بالقصص اليونانية القديمة . و هذا يجعلنا نسأل هل توقف العلم و في هذه الحالة التحليل النفسي على هذه القصص البسيطة و المحدودة عددياً للتعامل مع النفس الإنسانية ؟ لماذا لم نستخدم بقية القصص و الأساطير و مضمونها لتفسير الحالة الإنسانية ؟ سواء باستخراج المعنى الكامن أو بتحميلها معنى من واقع المعاناة الإنسانية . حتى ولو وجدنا تفسيراً إنسانياً جديداً لأساطير قديمة فهو غير مضمن داخل عملية التحليل النفسي أو العلاج النفسي .
ثانيا : و هذا يدفعنا للسؤال هل ما قدمه فرويد من استخدام للثقافة و الفكر اليوناني يمكن تطبيقه أو ملاحظته في بقية الثقافات و الشعوب ؟ و بالأخص الفكرتين السابق ذكرهما أوديب و نرسيس . هل تشترك شعوب أخرى في مفهوم قتل الأب ؟ مثلاً.
ثالثا: و هنا نصل لنقطة محورية ماذا لو كان فرويد ( بصفته ) هندياُ أو يابانيا أو صينيا و بالطبع أو مصرياً؟ ماذا كان سيستنبط أو يستخدم من هذه الثقافات والأفكار والتقاليد والأساطير ؟ ألم تقم هذه الثقافات بشرح العلاقات الإنسانية و ما يعتمل في النفس البشرية وصاغت هذه الصراعات النفسية في آدابها وعلومها ؟ أم أن معاناة الإنسان و صراعاته هي يونانية فحسب ؟
رابعا : و هو سؤال للمختصين في الحضارة المصرية القديمة. هل تناولت الحضارة المصرية قصة النفس الإنسانية و تفاعلاتها و صراعاتها و شكَلتها في قالب أدبي ؟ أم إنها اكتفت بالجزء الأخلاقي للإنسان و بقيم العدالة و البعث على حد قراءاتي البسيطة ؟
أشهر أسطورة متداولة هي الأسطورة المصطلح عليها : إيزيس و أوزوريس و حورس و ست . هل هي فقط مجرد صراع بين الخير والشر ؟ أم هي أسطورة وطنية فقط ؟ كيف يمكن أن نستفاد منها في شيء بخلاف طريقة تحنيط العضو الذكري لتوت عنخ آمون ؟ هل هناك قوالب أدبية أخرى أنا لا أعرفها أو قصص أخرى ؟
خامسا: فرويد بالرغم من خلفيته الدينية إلا إنه لم يلجأ لتفسير النفس الإنسانية من خلال ما جاء في الكتب الدينية أو قصص الأنبياء . و هنا السؤال هل نحن سرنا عكس توجه فرويد الفلسفي اليوناني اللاديني واتجهنا للكتب الدينية و اكتفينا بها لحل مشاكل الإنسان و الإنسانية؟
سادساً: هل معنى ذلك إنه توقفت إسهامات التحليل النفسي ؟ بالطبع لا. و لكنها غير ملموسة في الواقع الإكلينيكي السريري مثل الوسائل الدفاعية مثلاً أو فكرة النرجسية . لكن للأسف ما يزال بعض المحللين النفسيين أسرى الماضي و أبحاثه القديمة . ولا أقصد بالقديمة إنه لم يصلح استخدامها بالعكس اقصد أن الأساس القديم لم يتم البناء عليه بعد.
التحليل النفسي في رأيي الشخصي هو أقرب مدرسة للنفس الإنسانية. فهي لم تجعل الإنسان مجرد روبوت يحوي برنامج كومبيوتري علينا تصويبه مثل بقية المدارس العلاجية . بل احترمت كينونة الإنسان و خبراته و ذكرياته و نظرته للحياة و مشاعره , و تفاعلاته الإنسانية. علينا فقط أن نطوره بحيث يستطيع أن يخاطب القرن ال 21 بلغته العلمية الجوفاء بدون أن يفقد هويته الإنسانية.
تحياتي.