صباح الخير , كيف أحوالكم , لعلكم تكونوا بخير ؟
كنت قد كتبت سابقاً مقالة أشرح فيها بُعد من أبعاد الشخصية طبقاً لنموذج السمات الخمس الكبرى ستجدونها هنا و هي سمة الإلتزام والضمير . و بصراحة لم أعرف لماذا اخترت هذه السمة بالذات لكي أفتتح بها مقالاتي عن سمات الشخصية من وجهة نظر علم النفس . و أعتقد إنه قد آن الآوان أن أشرح النظرية الأكثر انتشاراً اليوم و هي نظرية ” السمات الخمس ” فهيا بنا .

السهم الذي للأعلى يصف المتغيرات الشخصية في حالة زيادة هذا العامل و العكس صحيح
.
السهم الذي للأعلى يصف المتغيرات الشخصية في حالة زيادة هذا العامل و العكس صحيح

فما هم هذه العوامل و ما هي صفاتهم ؟
1- صاحب الضمير : يتراوح ما بين الإندفاع و عدم الإنتظام في مقابل الإنضباط و الحذر .
2- المتوافق : يا إما أن يكون غير متعاون و شاك أو واثق و مفيد لمن حوله.
3- العصابي : صاحب هذه السمة يا إما أن يكون قلق و متشائم أو أن يكون هادئ وواثق.
4- المنفتح على التجارب الجديدة : يا إما يفضل الروتين و الحياة العملية , يا إما يتسم بالخيال و العفوية .
5- الإنبساطي : صاحب هذه السمة يتراوح ما بين أن يكون متحفظاً و مفكراً و منطوي أو أن يكون إجتماعياً ومرحاً.
هذه الصفات ثابتة و مستقرة نسبياً طوال حياة الإنسان و هي عادة أي شيء في علم النفس متأثرة بالجينات و تبلغ نسبة الوراثة حوالي 50 % و بالتفاعل البيئي وهذه السمات تؤثر في الصحة و التعليم و العلاقات و الفرص في الحياة .
كل سمة تمثل سلسلة متصلة
Continuum
يمكن للأفراد أن يقعوا في أي مكان على السلسلة المتصلة لكل سمة .
على عكس نظريات السمات الأخرى التي تصنف الأفراد إلى فئات ثنائية (أي انطوائي أو منفتح) ، يؤكد نموذج الخمسة الكبار أن كل سمة شخصية هي طيف أو متصل . لذلك ، يتم تصنيف الأفراد على مقياس بين الطرفين .

على سبيل المثال، عند قياس الانبساط، لا يتم تصنيف الشخص على أنه منفتح أو انطوائي تمامًا، ولكن يتم وضعه على مقياس يحدد مستوى الانبساط لديه.
ومن خلال تصنيف الأفراد حسب كل من هذه السمات، من الممكن قياس الفروق الفردية في الشخصية بشكل فعال.
و الآن مع مزيد من التفصيل.

أولا: سمة الضمير الحي ( الإلتزام و الضمير ) Conscientiousness
و هذه السمة تعني قدرة الشخص على التنظيم و التحكم في دوافعه للإنخراط في سلوكيات مهدفة ( موجهة ناحية هدف بعينه ) و غير مشتت. و هذه السمة تقيس عوامل مثل السيطرة و المنع و الإستمرارية في السلوك .
ففي حالة ما إذا حصل على شخص على معدل عالي في هذه السمة فهو : كفء , منظم , متفان , يسعى لتحقيق إنجاز مطلوب منه سواء داخلياً أو خارجياً , و بالتالي فهو منضبط ذاتياً , مـتأن و مصمم على تحقيق هدفه و حذر و يهتم بالتفاصيل , يتحكم في إنفعالاته و رغباته .
أما إذا حصل على معدل منخفض في هذه السمة فهو : غير كفء و غير منظم و غير مبال , يماطل و يسوف , غير منضبط ذاتياً يحتاج لوازع خاجري ليحقق الإنضباط , مندفع و متهور , و يكرهون النظام , و القواعد و القوانين.
ثانيا : التوافق أو القبول Agreeableness
تشير سمة التوافق إلى كيف يميل الناس إلى التعامل مع العلاقات مع الآخرين. و على عكس سمة الإنبساطية التي تشتمل على السعي وراء العلاقات الإجتماعية , إلا أن سمة التوافق أو المقبولية تركز على توجه الناس و نفاعلاتهم مع الآخرين .
المعدل العالي في هذه السمة معناه إن الشخص يتسم بالثقة و الغفران و الإستقامة و إيثار الآخرين على نفسه و حبه للخدمة و المساعدة و الإمتثال لمتطلبات اللحظة و التواضع و التعاطف و المواجدة , رقيق القلب , محبوب , متعاون , يعتبرهم الناس جديرين بالثقة .
أما المعدل المنخفض فهذا معناه أن الشخص متشكك و متطلب مهين للآخرين و يحقر منهم , عنيد , متباه , غير متعاطف أو جامد المشاعر , لا يهتم بما يشعر به الآخرون و قد يكون عدائي , فبالتالي يكون أقل عرضة للحب و الثقة .
ثالثا : الإنبساطية Extraversion
هذه السمة تعكس الرغبة و الشدة التي يرغب فيها إنسان ما أن يتفاعل مع البيئة و المجتمع المحيط به و الأخص العلاقات الإجتماعية. و تشمل مقدار شعور الشخص بالراحة و مستويات الثقة بالنفس وبالآخرين في المواقف الإجتماعية المختلفة . و بتعريف أكثر عمقاُ فهذه السمة تعبر عن المصدر الذي يستمد منه الإنسان طاقته هل من الآخرين أم من داخله !
المعدل العالي من هذه السمة معناه إن الشخص :
إجتماعي و مؤنس و ينشط من خلال التفاعل الإجتماعي , باحث عن الإثارة , يستمتع بكونه مركز الإهتمام , منفتح , محب للمرح , يشعر بالراحة في التعبير عن آرائه , يميل لإكتساب الطاقة و يتحمس في وجود آخرين.
المعدل المنخفض من هذه السمة معناه إن الشخص :
يفضل العزلة , يرهق من كثرة التواصل الإجتماعي , متحفظ , لا يرغب في أن يكون محط الأنظار ,
غير مبادر بل يعكس ما يلقى إليه . و الإنطوائي في هذه الحالة يبحث عن العزلة من أجل إستعادة الطاقة لإن التواصل الإجتماعي يستنزفه طاقياً .
رابعا: الإنفتاح على التجربة Openness To Experience
يشير الانفتاح على التجربة إلى استعداد المرء لتجربة أشياء جديدة و الانخراط في أنشطة خيالية وفكرية و القدرة على “التفكير خارج الصندوق”.
المعدل العالي لهذه السمة يشير أن الشخص :
فضولي , واسع الخيال , مبدع , منفتح على كل ما هو جديد و مثير , مستعد للتجربة , غير تقليدي, فنان , مستقل , يحب التغيير و التنوع , يحب السفر و تعلم أشياء جديدة .
المعدل المنخفض لهذه السمة معناه أن هذا الشخص :
تقليدي , يسهل التنبؤ بتصرفاته , ليس له خيال إبداعي , يكره التغيير , يفضل الروتين و النظام فيفضل المألوف على المجهول .
خامسا: العصابية Neuroticism
تصف العصابية الاستقرار العاطفي العام للإنسان من خلال كيفية إدراكه للعالم. ويؤخذ في الاعتبار مدى احتمال تفسير الشخص للأحداث على أنها تهديد أو صعبة. ويشمل أيضًا ميل الفرد إلى الإحساس بالمشاعر السلبية.
المعدل العالي لهذه السمة يشير إلى أن الشخص :
قلوق , سريع الإنفعال , غضوب , يتوتر بسهولة , خجول , سهل الإستثارة , مزاجه يتغير بسهولة من النقيض للنقيض , لا يشعر بالأمان , و يشفقون على ذواتهم , مزاجي يشعر بتدني الذات .
أما المعدل المنخفض لهذه السمة فهو يعني أن الشخص :
هادئ , ومستقر , لا يقلق كثيراً , مستقر عاطفياً , واثق من نفسه , مرن , نادراً ما يشعر بالحزن أو بالإكتئاب , راضي يحترمون و يقدرون أنفسهم .

التفسير و النتائج السلوكية للسمات الخمس الكبرى للشخصية :
أولا: في العلاقات :
في الزيجات التي يسجل فيها أحد الشريكين درجات أقل من الآخر في التوافق والاستقرار والانفتاح ، من المحتمل أن يكون هناك استياء زوجي.
ثانيا : في الصحة :
يبدو أن العصابية عامل خطر للعديد من المشاكل الصحية ، بما في ذلك الاكتئاب والفصام والسكري والربو ومتلازمة القولون العصبي وأمراض القلب.
الأشخاص الذين يعانون من ارتفاع العصابية معرضون بشكل خاص لاضطرابات المزاج مثل الاكتئاب. كما تم ربط انخفاض التوافق بارتفاع فرص حدوث مشاكل صحية.
هناك أدلة تشير إلى أن الضمير هو عامل وقائي ضد الأمراض الصحية. وقد لوحظ أن الأشخاص الذين يسجلون درجات عالية في الوعي الضميري لديهم نتائج صحية أفضل وطول عمر .
يعتقد الباحثون أن هذا يرجع إلى أن الأشخاص الضميريين يتمتعون بحياة منتظمة ومنظمة بشكل جيد ، بالإضافة إلى التحكم في الانفعالات واتباع الوجبات الغذائية وخطط العلاج وما إلى ذلك.
ثالثا: في التعليم :
تتنبأ الدرجة العالية في الوعي الضميري و الإلتزام بدرجات أفضل في المدارس الثانوية والجامعات. وعلى النقيض من ذلك، فإن انخفاض التوافق وانخفاض الإلتزام والضمير ينبئان بجنوح في السلوكيات و التصرفات فيما يخص المراهقون و الشباب .
رابعا : في العمل :
فيما يخص الأداء للأعمال المطلوبة فقد ثبت أن درجة عالية من الوعي الضميري و الإلتزام هي مؤشر جيد على طبيعة و جودة العمل المطلوب و هو أقوى مؤشر لذلك .
أما بقية السمات فتتنبأ بجوانب أخرى مطلوبة في الأداء الوظيفي . فعندما يتطلب العمل تعاون الفريق يصبح أهم مؤشرين هما التوافق و العصابية فيما يخص العمل الجماعي .
ومع ذلك ، يرتبط التوافق سلبا بالنشاط الفردي. فكلما زادت الدرجات على هذا المؤشر قلت الإنتاجية الفردية . يرتبط الانفتاح على التجربة بشكل إيجابي بالمبادرات الفردية ولكنه يرتبط سلبا بكفاءة الفريق .
الانبساط هو مؤشر على القيادة ، وكذلك النجاح في مناصب المبيعات والإدارة.
خامسا: تفضيلاتك الإعلامية و الفنية :
باختصار سماتك الشخصية تتحكم فيما تفضل أن تشاهده على وسائل الإعلام المختلفة و فيما تقرأه وتتعلمه . و العكس . فقل لي ماذا تشاهد أو تقرأ أقول لك ما هي السمة الغالبة عليك.
و هناك أبحاث تم إجرائها فيما يخص هذه النقطة و منشورة .
فمثلا الأشخاص الذين يسجلون معدل درجات عالي في سمة الإنفتاح على التجربة يعجبون بالأفلام المعقدة و الوثائقية و الكتب غير التقليدية مثل الفلسفة . فهم يحبون الفن الذي يمثل تحدياً إدراكياً .
أما الأشخاص ذوو الوعي الضميري العالي فهم يحبون الكتب المعلوماتية و الأشخاص ذوو المعدل العالي في التوافق والقبول فهم يحبون الأفلام العائلية و الكتب الرومانسية .
أما العصابيون فيحبون الكتب الخفيفة لتنظيم و تحسين المزاج و لا يحبون الأفلام .
أما الإنبساطيون فلم تقل الأبحاث شيئاً عن تفضيلاتهم الفنية و الإعلامية و الثقافية ربما لإرتباطهم أكثر بالتواصل الإجتماعي الحي .

ملاحظات علمية على نموذج الشخصية للخمس عوامل الكبرى:
1- يغلب عليها الجانب الوصفي أكثر من أي جانب نظري علمي آخر . و بالرغم من إننا ألمحنا لتضافر العوامل الجينية والبيئية في ظهور السمات إلا أن هذا الجانب السببي يحتاج لمزيد من البحث والتأصيل .
2- يحتاج كل مجتمع و ثقافة و بلد أن يبحث بنفسه ليتأكد من صلاحية هذا النموذج لديه . فكما قلنا أيضأ أن هناك عامل بيئي إجتماعي في ظهور السمات. فهل هناك سمة معينة تظهر في مجتمع أو بلد دون الآخر . هل هناك حاجة لإضافة سمات أخرى غير المتعارف عليها تتوافق مع مجتمع و ثقافة بعينها .
بالمناسبة في هذه النقطة أغلب الأبحاث التي أجريت على هذا النموذج كانت في مجتمعات حضرية متعلمة.
3- في أي إختبار لابد أن تجرى أبحاث على الفروقات بين الجنسين ( النوعين ) إذا لوحظت ( مثل إختبار الذكاء ) و إن كانت مثل هذه الفروقات حالياُ تقل بشكل ملحوظ .
إحصائياً الفروقات بين الجنسين أقل من الفروقات بين الأفراد داخل نفس الجنس( النوع ).
و إحصائياً أيضاً النساء أعلى في مؤشر العصابية و التوافق و الإنفتاح على المشاعر مقارنة بالرجال .
و لإني أكره الإحصاء فسأكتفي بهذا القدر في هذه النقطة .
كيف قاس العلماء التأثير الجيني على نموذج السمات الخمس ( الشخصية ) ؟
في كل الأبحاث التي تبحث عن التاثير الجيني تعتمد على دراسات التوائم و الأطفال المتبناة .
فكانت نسبة التأثير الوراثي heritability ( أو بشكل أكثر دقة كمية التبيان التي يمكن أن تُعزى للجينات ) 40 % – 60 %
فسمات الشخصية الخمس الكبرى تتأثر بشكل كبير بالجينات.
( مالك متربي من عند ربي ) هل توافق على هذا المثل ؟
هل الإنسان مسير أم مخير ؟
سنفكر في هذه الأسئلة فيما بعد . و من السهل أن تمسك العصا من المنتصف .
و نعود لموضوعنا . و هذه المرة علاقة هذا النموذج بمقدار استخدامك للتليفون المحمول . فوجد الباحثون إن الأشخاص الإنبساطيين يستخدمون هواتفهم بشكل متكرر بمجرد أن يمسكوها لأول مرة في اليوم . أما الأشخاص ذوو الوعي الضميري العالي كانوا أقل عرضة لإستخدام هواتفهم المحمولة و لفترات أقل .
كذلك في حالة ضعف الروابط الإجتماعية أو في الأماكن العامة يزداد استخدام التليفون المحمول . ويقل استخدامها مع العلاقات الوثيقة . ( بتلاحظ بتعمل إية لما تدخل مطعم أو مكان جديد عليك ؟ طيب بتعمل إية لما تقعد مع شخص أنت بتحبه ؟)
طيب و إية علاقة الأبحاث دي بموضوع الجينات ؟
هو البحث كبير شوية و معقد شويتين . لكن الخلاصة منه هو إن السياق و الموقف الإجتماعي لهما دور مهم في مدة استخدامك للتليفون المحمول و ليس فقط شخصيتك وسماتها و بالتالي الجينات.
ألم نقل إننا سنمسك العصا من المنتصف كالعادة ؟
طبقاً لهذا النموذج هل تتغير السمات أو تختلف درجتها و شدتها مع التقدم في العمر ؟
كقاعدة عامة تظل درجات سمات الأشخاص الخمسة الكبار مستقرة نسبيا في معظم فترات العمر مع بعض التغييرات الطفيفة من الطفولة إلى مرحلة البلوغ. و لكن :
وجد بعض العلماء أن التوافق و القبول و الوعي الضميري تزداد درجات معدلهم مع التقدم في العمر.
كذلك وجدوا انخفاض الانفتاح على التجربة والعصابية بشكل طفيف من مرحلة المراهقة إلى منتصف مرحلة البلوغ.
هل هناك إختبار يقيس العوامل الخمس الكبرى للشخصية ؟
طبعاُ . كل هذه المقالة قائمة على فكرة أن هذه السمات تم قياسها معملياً و التحقق من نتائجها كما أسلفنا . و بالرغم من إنه يمكنك الحصول على الإختبار إلا إني لا أنصح أن تجريه بنفسك بدون إشراف وخصوصاً أن هناك طريقة معينة لتصحيحه .
ختاماً : هل تعتقد إنه يمكن أن تتغير شخصيتك ؟ … تحياتي .
