النشاز المعرفي معناه هو إنك تتعرض لموقف معين و هذا الموقف ينطوي على سلوكيات و معتقدات و ميول متضاربة . و بالتالي ينشأ عنه شعور بعدم الراحة العقلية . و هذا الشعور المزعج يدفعك يا إما لتغيير سلوكك أو تغيير معتقداتك لتقليل الإنزعاج و إستعادة التوازن النفسي.
فعلى سبيل المثال المشهور و هو ما هو مكتوب على علبة السجائر و أثبتته الأبحاث من أن التدخين ( السلوك في هذه الحالة ) يسبب السرطان و يؤدي للوفاة . هذه المعرفة و الإدراك تسبب نوع من عدم الراحة و الإزعاج .
لاحظ Leon Festinger
هذه الظاهرة و بدأت بالبحث فيها أول مرة عندما شاهد أتباع طائفة دينية معينة اعتقدت أن الأرض ستدمر بواسطة فيضان و بسبب هذا الإيمان تركوا منازلهم و أعمالهم من أجل الطائفة. و عندما لم يحدث هذا الدمار أو هذا الفيضان و بسبب عدم شعورهم بالراحة و دخولهم في مرحلة الشك في معتقداتهم ( التنافر المعرفي ) أعادوا تفسير الأحداث بإنهم كانوا على حق طول الوقت و لم يتم تدمير الأرض بسبب إخلاص طائفتهم و تقواهم.
أما الأعضاء غير المتزمتين و الهامشيين كانوا أكثر ميلاً للاعتراف بأنهم جعلوا من أنفسهم ” أغبياء ” و أعادوا التفكير في كل معتقداتهم.
كيف يحدث التغيير ؟
تشير نظرية النشاز ( التنافر ) المعرفي Festinger 1957
إلى أن لدينا دافعاً داخلياً للحفاظ على جميع مواقفنا وسلوكياتنا في وئام وتجنب التنافر (أو النشاز) مع معتقداتنا. يعرف هذا بمبدأ الاتساق المعرفي
cognitive consistency.
عندما يكون هناك تناقض بين المواقف أو السلوكيات(التنافر) ، يجب أن يتغير شيء ما للقضاء على هذا التنافر
.
من المهم الملاحظة أن نظرية النشاز (التنافر) المعرفي لا تنص على أن هذه الأنماط من التنافر المعرفي ستعمل بالفعل لوحدها لتغيير السلوك بمجرد إدراكها.
لكن الأشخاص الذي هم في حالة تنافر معرفي و يعانون من هذه الحالة سيتخذون خطوات فعلية و جادة لتقليل مدى هذا الإزعاج
.
لماذا تحدث هذه الظاهرة أي النشاز المعرفي ؟
هذه بعض الأسباب :
1- سلوك الإمتثال القسري.
2- إتخاذ القرار.
3- الجهد.
أولا: سلوك الإمتثال القسري
عندما يجبر شخص ما على القيام (علنا) بشيء لا يريد (سرا) فعله حقا ، يتم حدوث تنافر بين إدراكه (لم أرغب في القيام بذلك) وسلوكه (لقد فعلت ذلك).
يحدث الامتثال القسري عندما يقوم الفرد بعمل لا يتفق مع معتقداته. و بما إنه لا يمكن تغيير السلوك لأنه كان حدث بالفعل في الماضي ، لذلك يجب تقليل التنافر و الضيق الناتج عنه من خلال إعادة تقييم موقفهم تجاه ما فعلوه ووضع تفسيرات أو تبريرات جديدة.
في تجربة مثيرة للاهتمام ، طلب Festinger and Carlsmith (1959) من المشاركين أداء سلسلة من المهام المملة (مثل تدوير بعض المفاتيح في لوحة ربط لمدة ساعة بدون هدف أو نتيجة) و كان الهدف من هذه التجربة هو التحقق فيما إذا كان جعل الناس يؤدون مهمة مملة من شأنه أن يخلق تنافرا معرفيا من خلال سلوك الامتثال القسري و استخدموا في تجربتهم عدداً من الطلاب لهذه المهمة المملة ثم تم تقسيمهم لمجموعتين . دفع لإحداها 1 دولار و دفع للأخرى 20 دولار لإخبار طلبة آخرين مشتركين مع الباحث في تجربته أن المهام كانت مثيرة للاهتمام حقا. وافق جميع المشاركين تقريبا على الدخول إلى غرفة الانتظار وإقناع الآخرين بأن التجربة المملة ستكون ممتعة.
و عندما طُلِب من المشاركين تقييم التجربة صنف المشاركون الذين حصلوا على 1 دولار فقط المهمة الشاقة و المملة على أنها أكثر متعة ولذيذة من المشاركين الذين حصلوا على 20 دولارا للكذب.
و التفسير لذلك هو أن بالرغم من الحصول على 1 دولار ليس حافزاً كافياً للكذب إلا إنه بسبب التنافر المعرفي و الضيق الذي يسببه و عدم تمكنهم من التغلب عليه دفعهم للإعتقاد بأن المهمة كانت مثيرة للإهتمام و ممتعة حقاً. أما من حصلوا على 20 دولار فلم يدخلوا في هذا الصراع و النشاز المعرفي فال 20 دولار سبباً كافياً لدخول هذه التجربة المملة و بالتالي لم يحدث التنافر المعرفي.
ثانياَ : إتخاذ القرار
تمتلئ الحياة بالقرارات ، والقرارات (كقاعدة عامة) تثير التنافر و الضجر.
على سبيل المثال ، افترض أنه كان عليك أن تقرر ما إذا كنت ستقبل وظيفة في منطقة جميلة للغاية من البلد أو ترفض الوظيفة حتى تكون بالقرب من أصدقائك وعائلتك.
في كلتا الحالتين، سوف تشعر بالتنافر. إذا قبلت الوظيفة فسوف تفتقد أحباءك؛ وإذا رفضت الوظيفة فسوف تشتاق إلى الجداول والجبال والوديان الجميلة.
كلا البديلين لهما نقاط جيدة ونقاط سيئة. المشكلة هي أن اتخاذ القرار يقطع إمكانية الاستمتاع بمزايا البديل غير المختار ، لكنه يؤكد لك أنه يجب عليك قبول عيوب البديل المختار.
و بالرغم من أن جميعنا نختبر هذا الإحساس بالحيرة و عبرنا عنه في أمثالنا ” عايز تحيره خيره ” إلا إنه لابد من إجراء التجارب العلمية الإحصائية على ذلك و بعد ذلك مناقشة النتائج .
و أول تجربة كانت في عام 1956 قام بها العالم Brehm (1956) و بها الكثير من التفاصيل سأحاول أن أختصرها هنا.
حيث طلب من بعض السيدات المتسوقات تقييم جاذبية بعض الأجهزة المنزلية الكهربائية و الإختيار بين اثنين منهما و تقييمهمها. و كتعويض عن مجهودهم ووقتهم سيتم إعطائهم هدية ما اختاروه وفضلوه من الأجهزة . وبعد عشرين دقيقة، طُلب منهم إعادة تقييم الأجهزة التي اختاروها و فضلوها بناء على معلومات مختلطة من الجيدة و السيئة . ماذا حدث؟ لقد قيموا الآن هديتهم بدرجة أعلى إلى حد ما , كمحاولة منهم لتقليل التنافر و الإزعاج الذي يشعرون به عن طريق جعل البديل المختار أكثر رغبة و جاذبية و البديل غير المختار أقل رغبة أو أكثر سوءا.
و في الحياة العملية نلمس ذلك بوضوح في حياة المهاجرين . فعليهم أن يعززوا من مميزات البلد الذي هاجروا إليه في مقابل التقليل من الوطن الأم .
ثالثا: الجهد
يبدو أيضًا أننا نقدر بشكل كبير تلك الأهداف أو العناصر التي تتطلب جهدًا كبيرًا لتحقيقها.
ربما يرجع هذا إلى أن التنافر قد يحدث إذا بذلنا جهدًا كبيرًا لتحقيق شيء ما ثم اكتشفنا أنا لا قيمة له أو قيمناه سلبًا.
يمكننا بالطبع أن نقضي سنوات من الجهد في تحقيق شيء يتبين أنه مجرد لا شيء ثم، لتجنب التنافر الناتج عن ذلك، نحاول إقناع أنفسنا بأننا لم نبذل سنوات من الجهد حقًا أو أن الجهد كان ممتعًا حقًا، أو أنه لم يكن كثيرًا حقًا.
في الواقع، يبدو أننا نجد أنه من الأسهل إقناع أنفسنا بأن ما حققناه يستحق العناء، وهذا ما يفعله معظمنا، حيث نقيم بشكل كبير شيئًا كلّفنا إنجازه غاليًا – سواء اعتقد الآخرون أنه كان كثيرًا أم لا!
تُعرف هذه الطريقة لتقليل التنافر باسم “تبرير الجهد“. “effort justification.”
إذا بذلنا جهدًا في مهمة اخترنا القيام بها، واتضح أن المهمة سيئة، فإننا نختبر التنافر. ولكي نخفف من هذا التنافر، فإننا نحاول أن نفكر في أن المهمة انتهت على خير ما يرام.
و التجربة العلمية الموضحة للعلاقة بين الجهد و الضجر الحادث بسبب التنافر ( بالرغم من عدم حاجتنا لها لإننا نختبر ذلك كل لحظة في حياتنا) هي ما قام بها العالمان Aronson and Mills (1959)
حيث تم تقسيم مجموعة من الطالبات إلى ثلاث مجموعات لمناقشة علمية بخصوص سيكولوجية الجنس . و طُلِب من المشاركان قراءة بعض الكلامات المتعلقة بالجنس لباحث رجل يستمع لهن , و هي تمثل حالة ” إحراج خفيف ” كلمات مثل :” عذراء” و “عاهرة “. هذه الكلمات كانت محرجة في عام 1959 !!
و في المجموعة الثانية طُلِب منهن قراءة كلمات بذيئة بصوت عال و مقطع جنسي صريح للغاية و هو ما يمثل حالة ” إحراج شديد “
و المجموعة الثالثة كانت مجموعة حاكمة control group و ذهبت للدراسة مباشرة . و الدراسة كانت للثلاث مجموعات هو سماع مناقشة مملة جداً حول الجنس في الحيوانات الدنيا Lower animals
وطُلِب منهم بعد ذلك تقييم مدى اهتماهم بالمناقشة و الدراسة و مدى اهتمامهم بالأشخاص المشاركين فيها .
النتائج كانت هي أن المجموعة التي شعرت ” بإحراج شديد ” أعطين أعلى تقييم للدراسة .
و هذه التجربة توضح بما أن الجهد المبذول في هذه التجربة التطوعية كان كبيراً و محرجاً فمن أجل تقليل هذا التنافر أعادوا تعريف التجربة و الدراسة بأنها مثيرة للإهتمام من أجل تبرير الجهد المبذول.
كيف يمكن الحد من ألم و ضيق النشاز المعرفي ؟
بإحدى هذه الطرق الثلاث .
1- تغيير المعتقدات الحالية أو إضافة معتقدات جديدة.
2- تغيير السلوك و هو مرتبط بالنقطة الأولى .
3- تقليل أهمية المعتقدات.
1- تغيير واحد أو أكثر من المواقف أو السلوكيات أو المعتقدات وما إلى ذلك، لجعل العلاقة بين العنصرين علاقة متناغمة.
عندما يكون أحد العناصر المتنافرة سلوكا ، يمكن للفرد تغيير السلوك أو التخلص منه حتى نستريح من هذا التنافر المعرفي و ألمه.
ومع ذلك ، فإن هذا النمط من الحد من التنافر يمثل فيأحياناً كثيرة مشاكل للناس ، حيث يصعب على الناس في كثير من الأحيان تغيير الاستجابات السلوكية المكتسبة (على سبيل المثال ، الإقلاع عن التدخين).
غالبا ما يكون هذا صعبا للغاية ، حيث يستخدم الناس في كثير من الأحيان مجموعة متنوعة من المناورات العقلية.
2- الحصول على معلومات جديدة تفوق المعتقدات المتنافرة.
و دي فيها مثلين عكس بعضهما البعض. ففي مثال الإقلاع من التدخين . التفكير في أن التدخين يسبب سرطان الرئة سيؤدي إلى تنافر و ضجر و ضيق ما بين الحصول على فوائد التدخين و بين ضرره.
فيلجأ الشخص للبحث عن معلومات معاكسة لتقليل هذا التنافر مثل : “لم تثبت الأبحاث بشكل قاطع أن التدخين يسبب سرطان الرئة”
3- تقليل أهمية الإدراك (أي المعتقدات والمواقف).
تتمثل إحدى الطرق الشائعة لتقليل التنافر في زيادة جاذبية البديل المختار وتقليل جاذبية البديل المرفوض. يشار إلى هذا باسم “توزيع البدائل”.
يمكن لأي شخص أن يقنع نفسه بأنه من الأفضل “العيش لهذا اليوم” بدلا من “الادخار للغد”. “ يا عمي الأعمار بيد الله ” , “ إحييني النهاردة و موتني بكرة ” , إحنا حنعيش كام مرة ” و هكذا.
بمعنى آخر ، يمكنه أن يقول لنفسه أن الحياة القصيرة المليئة بالتدخين والملذات الحسية أفضل من حياة طويلة خالية من هذه الأفراح. وبهذه الطريقة ، سيقلل من أهمية الإدراك المتنافر (التدخين ضار بصحة المرء).
ختاما : أي نظرية لابد أن يكون عليها إعتراضات و مناقشات. و من حقك أن نختلف ما إذا كانت هذه نظرية بالفعل أم مجرد شعور بالذنب على إختيار خاطئ و لا تستحق كل هذا الجهد أو هذه التجارب العلمية التي بالمناسبة عليها بعض الملاحظات العلمية كالعادة .
قد قمت من عدة سنوات بعمل فيديو بخصوص هذه الظاهرة أعقبه قيام كثيرين بالتحدث عن هذه النظرية أو الظاهرة تستطيعون مشاهدته من هنا .